من خصائص القرآن الكريم أنه كتاب يسره الله تعالى للحفظ والذكر، قال تعالي: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) (القمر:17) وهذا طريق من الطرق التى هيأها الله لحفظ كتابه الكريم من التبديل والتحريف والضياع، تصديقاً لقوله تعالي : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) فالقرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذى حفظه الله بحفظه، وسلّمه من كل تبديل أو تغيير، ليكون حجة على الناس يوم الدين .. ولقد استفاضت الأحاديث النبوية المرغِّبة بحفظ القرآن، نذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم: ( يجيء صاحب القرآن يوم القيامة، فيقول: يا رب حلِّه، فيُلبس تاج الكرامة، ثم يقول: زده، فيُلبس حُلَّة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارضَ عنه، فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ وارق، وتزاد بكل آية حسنة ) رواه الترمذى وقال: حسن صحيح، ورواه الحاكم وصححه.. ومن ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارقَ، ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) رواه أحمد . ولمنـزلة حافظ القرآن وفضله، فقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحقيته وأفضليته فى إمامة الصلاة، فقال: ( يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله ) رواه مسلم.وبلغ من إكرام رسول صلى الله عليه وسلم لِحَفَظَةِ كتاب الله أن قدَّمهم على غيرهم فى اللحد فى غزوة أحد، فكان صلى الله عليه وسلم، إذا أراد أن يدفن رجلين سأل: ( أيهم أكثر أخذًا للقرآن - أى حفظًا لكتاب الله - فإن أُشير له إلى أحدهما قدَّمه فى اللحد) رواه البخارى .ويكفى أهل القرآن شرفًا أن أضافهم الله إلى نفسه، واختصهم بما لم يختص به غيرهم، ففى الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لله أهلين من الناس، فقيل: مَن هم؟ قال أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته ) رواه أحمد.
ولما كانت هذه مكانة حفظ القرآن وحفظته، فقد وجدنا صغار الصحابة وشبابهم رضى الله عنهم، كعمرو بن سلمة، والبراء بن عازب، وزيد بن حارثة، وغيرهم كثير، يحرصون على تعلم القرآن وحفظه، حتى إن زيد بن ثابت رضى الله عنه كان من الحفظة الأثبات، الذين اعتمد عليهم أبو بكر وعثمان فى جمع القرآن الكريم. وقد سار سلف هذه الأمة من التابعين ومَن بعدهم على هدى الصحابة، فى حفظهم لكتاب الله، ولو رجعنا إلى تراجم أهل العلم لوجدنا أن جُلَّهم قد حفظ القرآن الكريم، ولمَّا يجاوز الخامسة عشرة من عمره.
القاعدة الأولي:الإخلاص :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والإخلاص مطلب أساس من مطالب أى عبادة، وهو أحد الركنين الأساسين اللذين تُقبل على أساسهما العبادة، قال تعالي(فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (الكهف:110) فمن أراد أن يكرمه الله بحفظ كتابه فلا بد أن ينويَ بعمله هذا وجه الله، من غير أن يقصد من وراء ذلك أى مكسب مادى أو معنوي.
القاعدة الثانية: تصحيح النطق والقراءة :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
هذا الجانب هو الركن الثانى من ركنى قبول العمل، وهو ركن صوابية العمل وموافقته للسنة، فمن أراد حفظ كتاب الله فعليه أن يتلقى القرآن عن أهله المتقنين له، ولا يكفيه أن يعتمد على نفسه فحسب، وذلك أن أهم خصائص القرآن الكريم أنه لا يُؤخذ إلا بالتلقى عن أهله، يرشد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه عن جبريل، والصحابة رضى الله عنهم أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا حتى وصل إلينا محفوظاً من كل تحريف وتبديل ونقص.
القاعدة الثالثة: تحديد نسبة الحفظ اليومى :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
الالتزام بهذه القاعدة من الأمور الميسِّرة لحفظ كتاب الله، فهى تقدم نوعًا من الالتزام اليومى لمن يريد الحفظ، فيخصص عدداً من الآيات لحفظها يوميًا، أو صفحة أو صفحتين. ونحن هنا ننصح بالتزام منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: ( خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا، وأحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه، وإن قلَّ ) رواه البخارى و مسلم ، وكما قالوا: قليل دائم خير من كثير منقطع.
القاعدة الرابعة: تثبيت ما تمَّ حفظه :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
قبل الانتقال إلى غيره فلا ينبغى لمن شرع فى حفظ كتاب الله أن ينتقل إلى محفوظ جديد قبل تثبت ما تم حفظه تماماً، ومما يُعين على هذا الأمر تكرار المحفوظ كلما سمح الوقت بذلك، كتكراره أثناء الصلوات المفروضة والمسنونة، ووقت انتظار الصلاة، ونحوه، ففى ذلك كله عون على تثبيت ما تم حفظه.
القاعدة الخامسة: المحافظة على مصحف واحد للحفظ :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذه القاعدة من الأمور المساعدة على حفظ كتاب الله؛ وبيان ذلك أن الإنسان يحفظ بالنظر كما يحفظ بالسمع، فمواضع الآيات فى المصحف تُرسم فى الذهن مع كثرة القراءة والنظر فى المصحف، فإذا غيَّر الحافظ مصحفه، أدَّى ذلك إلى تشتيت الذهن، لذا كان الأفضل الالتزام بمصحف واحد، ويفضل هنا ما يُطلق عليه "مصحف الحفاظ" الذى تبدأ صفحاته بآية وتنتهى بآية.
القاعدة السادسة: اقتران الفهم بالحفظ :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
من أعظم ما يُعين الحافظ على حفظه فهم الآيات التى يحفظها، ومعرفة ارتباط بعضها ببعض. والذى ينبغى ملاحظته هنا، تلازم الحفظ والفهم معاً، وأن أحدهما يكمِّل الآخر ويسانده ويدعمه، ولا يستغنى أحدهما عن الآخر بحال.
القاعدة السابعة: الربط بين أول السورة وآخرها :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
بعد أن يتم حفظ السورة كاملة يُستحسن لمن يحفظ ألا ينتقل إلى سورة أخرى إلا بعد أن يتم ربط أول السورة المحفوظة بآخرها. وبهذا يُشكِّل حفظ كل سورة وحدة مترابطة متماسكة لا انفصام بينها.
القاعدة الثامنة: تعاهد المحفوظ بالمراجعة والمدارسة :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهذه القاعدة من الأهمية بمكان، إذ ينبغى لمن وفَّقه الله لحفظ كتابه أن يتعاهده بالمراجعة والمدارسة بشكل مستمر، ويُفضَّل أن تتم المراجعة مع حافظ آخر، ففى ذلك خير كثير؛ يساعد من ناحية على تثبيت المحفوظ، ويساعد من ناحية ثانية على تصحيح ما تمَّ حفظه بشكل غير صحيح، فضلاً عن أن التزام المدارسة مع حافظ آخر ييسِّر المراجعة المستمرة، فالإنسان عادة ينشط بغيره ما لا ينشط بنفسه، وقد قال تعالي: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ(القصص:35) وتخصيص وِرْدٍ يومى للمراجعة أمر مهم ومفيد هنا.. ولا يخفى عليك - أخى الكريم - أن القرآن الكريم بقَدْر ما يسَّره الله للحفظ، بقَدْر ما هو سريع التفلُّت والنسيان، إذا لم يتعهده ويتعاهده الحافظ بالمراجعة والتكرار، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ( تعاهدوا هذا القرآن، والذى نفس محمد بيده لهو أشد تفلُّتًا من الإبل فى عُقُلِها) رواه البخارى و مسلم. نسأل الله الكريم أن يجعلنا من الحافظين لكتابه، العاملين به، وأن يوفِّقنا لما يحب ويرضى من القول والعمل، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.